الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فبينا أنا أمشى بسوق المدينة، إذا نَبَطِى من أنباطِ الشام ممن قَدِمَ بالطعام يَبيعه بالمدينة يقولُ: مَنْ يدُلُّ على كعبِ بْنِ مالك، فطفِقَ الناسُ يُشِيرونَ لهُ حتَّى إذا جاءنى، دفع إلىَّ كتابًا من ملك غَسَّان، فإذا فيه:أما بعدُ.. فإنه بلغنى أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نُواسِك. فَقُلْتُ لما قرأتها: وهذا أيضًا مِن البلاء، فتيممتُ بها التنور، فسجرتُها حتى إذا مضت أربعون ليلةً مِن الخمسين، إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتينى، فقال: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، فقلتُ: أُطلقها أم ماذا؟ قال: لا ولكن اعتزلها ولا تقربْها، وأرسل إلى صاحبىَّ مثل ذلك، فقلتُ لامرأتى: الحقى بأهلك، فكونى عندهم حتى يَقْضِىَ اللهُ في هذا الأمر، فجاءت امرأةُ هلال بن أُمية، فقالت: يا رسول الله؛ إنَّ هلالَ بنَ أُمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدُمه قال: «لا ولكن لا يقرَبُك»، قالت: إنه واللهِ ما بِه حركة إلى شيء، واللهِ ما زال يبكى منذ كان مِن أمره ما كان إلى يومه هذا، قال كعب: فقال لى بعضُ أهلى: لو استأذنتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هِلال بن أُمية أن تخدُمه، فقلت: واللهِ لا أستأذِنُ فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وما يُدرينى ما يقولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنتُه فيها، وأنا رجل شاب، ولبثتُ بعد ذلك عشرَ ليالٍ حتى كَمُلَت لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صَلَّيتُ صلاةَ الفجر صُبْحَ خمسين ليلةً على سطح بيت من بيوتنا، بينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى، قد ضاقت علىَّ نفسى، وضاقت علىَّ الأرضُ بما رحُبت، سمعتُ صوتَ صارخ أوفى على جبل سَلْعٍ بأعلى صوتِه: يا كعبَ ابنَ مالك؛ أبشر، فخررتُ ساجدًا، فعرفتُ أن قد جاء فرجٌ مِن اللهِ، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صَلَّى الفجر، فذهب الناسُ يُبشرونَنا، وذهب قِبَلَ صاحبىَّ مبشرون، وركضَ إلىَّ رجل فرسًا، وسعى ساع مِن أسلمَ، فأوفى على ذِرْوة الجبل، وكان الصوتُ أسرعَ مِن الفرس، فلما جاءنى الذي سمعتُ صوته يبشرنى، نزعتُ له ثوبىَّ فكسوتُه إياهما ببُشراه، واللهِ ما أملك غيرهما، واستعرتُ ثوبين، فلبستُهما، فانطلقتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقانى الناسُ فوجًا فوجًا يُهنئوننى بالتوبة يقولون: لِيهْنِكَ توبةُ الله عليك، قال كعب: حتى دخلتُ المسجد، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالس حولَه الناس، فقام إلىَّ طلحةُ بنُ عُبيد الله يُهروِلُ حتى صافحنى وهنَّأنى، واللهِ ما قام إلىَّ رجل من المهاجرين غيره، ولستُ أنساها لِطلحة، فلما سلَّمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وهو يَبْرُقُ وجهُه من السرور: «أَبْشِرْ بِخَيْر يَوْم مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ».قال قلتُ: أمِن عندك يا رسولَ الله، أم مِن عند الله؟ قال: «لا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ»، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهُه حتى كأنه قِطعةُ قمر، وكنا نعرفُ ذلك منه، فلما جلستُ بين يديه، قلت: يا رسول الله؛ إنَّ مِن توبتى أن أنخلِع مِن مالى صَدَقة إلى الله، وإلى رسوله، فقال: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»، قلت: فإنى أُمِسكُ سهمى الذي بخَيْبرَ. فقلتُ: يا رسول الله؛ إنَّ الله إنما نجانى بالصدق، وإنَّ من توبتى ألاَّ أُحَدِّثُ إلا صدقًا ما بقيتُ، فواللهِ ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومى هذا ما أبلانى، واللهِ ما تعمدتُ بعد ذلك إلى يومى هذا كذبًا، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقيتُ، فأنزلَ الله تعالى على رسوله: {لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النبي وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة: 117] إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، فواللهِ ما أنعم الله علىَّ نعمة قَطُّ بعد أن هدانى للإسلام، أعظمَ في نفسى من صدقى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذبته، فأهْلِكَ كما هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فإن الله قال للذين كذَبُوا حين أنزل الوحى شر ما قال لأحد قال: {سَيَحْلِفُونَ باللهِ لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ} [التوبة: 95] إلى قوله: {فَإنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الفَاسِقِينَ} [التوبة: 96].قال كعب: وكان تخلُّفنا أيُّها الثَّلاثَةُ عن أمر أُولئك الذين قبل منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ أمرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال الله: {وعَلى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه. وقال عثمان بن سعيد الدارمى: حدَّثنا عبد الله بن صالح، حدَّثنى معاوية بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس، في قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] قال: كانوا عشرةَ رهط تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوك، فلما حضر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أوثقَ سبعةٌ منهم أنفسَهم بسوارى المسجد، وكان يَمُرُّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم، فلما رآهم قال: «مَنْ هؤلاء المُوثِقُون أنْفُسَهُم بالسوارِى؟» قالوا: هذا أبو لُبابة وأصحابٌ له تخلَّفوا عنك يا رسولَ الله أوثقُوا أنفسَهم حتى يُطلِقَهُم النبي صلى الله عليه وسلم ويعذرهم.قال: «وأنَا أُقْسِمُ بِاللهِ لا أُطْلِقُهُم وَلاَ أَعْذِرُهم حَتَّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الذي يُطْلِقُهُمْ، رَغِبُوا عَنِّى وتَخَلَّفُوا عَن الغَزْو مَعَ المُسْلِمِينَ»، فلما بلغهم ذلك، قالوا: ونحن لا نُطْلِقُ أنفسنا حتى يكون اللهُ هو الذي يُطلقنا، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وعسى من الله واجب {إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. فلما نزلت، أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأطلقهم، وعذرهم، فجاؤوا بأموالهم، فقالوا: يا رسول الله؛ هذه أموالنا، فتصدَّق بها عنا، واستغفر لنا، قال: «ما أُمِرْتُ أنْ آخُذَ أمْوَالَكُم» فأنزل الله: {خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] يقول: استغفر لهم، {إنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ فأخذ} مِنهم الصدقة، واستغفر لهم، وكان ثلاثة نَفَر لم يُوثقوا أنفسهم بالسوارى، فأُرجِئوا لا يَدرونَ أيُعذَّبون أم يُتاب عليهم؟ فأنزل الله تعالى: {لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النبي والمُهَاجِرِينَ والأَنْصارِ} إلى قَولِه: {وعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ}. إلى قوله: {إنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} تابعَه عطية ابن سعد.
|